الإعلان الذي نشرته الصحف وسمعناه من قبل ذلك على لسان معالي السيد وزير ديوان البلاط السلطاني ـ رئيس هذه اللجنة ـ بالأوامر السامية من قبل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم، بتشكيل لجنة لدراسة أوضاع الدراما والمسرح في البلاد يعني بشكل أو بآخر بأن هناك ثمة خلل بين في هذه المنظومة الثقافية والفنية المهمة في البلد، ويعني بأن المسرح والدراما ليست ترفيها فقط، وإنما تقوم بأدوار مهمة في توجيه المجتمع تجاه التفكير بشئونه وإشكالياته المتعددة.
لقد مرت سنوات طوال وكثير منا يرى في الفن عموما مهنة رفاهية، بمعنى آخر مهنة من لا مهنة له، برغم أن الأمر الواقعي يقول بأن كافة الممثلين والفننين العاملين في هذا القطاع لا يربحون تماما من هذه المهنة، بل إنهم في حالات يخاطرون بمهنهم الحقيقية من أجل أن يقدموا عملا فنيا يرون فيه رضا ما، ولذلك تختفي كثير من المواهب التي يعقد عليها الأمل في تشكيل ظاهرة فنية جديدة تحاول أن تسد الفراغ المستمر مذ بدء الظاهرة الفنية في السلطنة ونشوء جيل واحد فقط من الفنانين نراهم كل مرة لا يتغيرون إلا قليلا! لأنهم فعليا لا يريدون أن يضحوا بمستقبلهم الوظيفي والمهني الحقيقي من أجل حفنة ريالات لا تكفي أجرة ربما لسياراتهم! وهم أيضا غير مستعدين لأن يدخلوا مجالا متعبا غير منظم كالمجال الفني ليظهروا بتجارب ضعيفة المستوى في كل زاوية من زواياها الجمعية!
فإذا ما اعترفنا بوجود هذا الخلل وكففنا عن تجميل ما هو غير جميل، فإننا وضعنا أيدينا على الجرح الأول في جسد الفن العماني سواء كان دراما أو مسرحا، فإحدى إشكاليات الدراما والمسرح العمانيين هو افتقاد العاملين فيه إلى قدرتهم على مجابهة أنفسهم والقول بأنهم يسيرون في حقل الخطأ الفني، بل دائما ما يقولون بعكس ذلك، وبأن نجاحا منقطع النظير قد حققوه من وراء الإخفاقات التي قدموها، وبالذات في حقل الدراما التلفزيونية الموسمية والتي نشاهدها في رمضان من كل عام، إذ كمثال بسيط على ذلك، طوال السنوات الخمس الماضية وربما من قبل ذلك كانت الدراما العمانية تمر بضعف وترهل واضحين، غير إن التصاريح الصحفية التي يقوم بها أصحاب تلك الأعمال تنفي هذا الترهل والضعف وتؤكد على تقبل الناس لتلك الأعمال سواء من الداخل أو الخارج، وهذا كلام مناف للصواب تماما فلا إنجازات حقيقية تأكدت حتى الآن، وبإمكان القائمين على تلك الأعمال أن يقوموا بمسوح واستبانات للتأكد من صحة مقولة الضعف الذي قدموه.
القصد بأن إيمان هؤلاء بأن ما يقدمونه هو الإبداع التام، هو أول الإشكاليات التي تواجه الدراما العمانية والمسرح العماني، فهذه الثقة الكبيرة والمتضخمة في بعض الأحوال تعني عدم قدرة هذا الفنان على النظر إلى كل الزوايا بحيث يحاول أن يتجنبها في المرات المقبلة بل يحاول أن يطور نفسه وفي أدواته الفنية، إذ ما دام مقتنعا بأن أدواته هي الإبداع التام فكيف يمكن أن يقتنع بأن هناك أدوات أخريات يمكن له أن ينظر إليها ويطبقها ويجربها في عمله الفني؟!
هذا بدوره يعني بعدم قدرة هذا المبدع على استقراء القدرات الأخرى الموجودة حوله والاستفادة منها بشكل جيد، وتظل ثقافته الفنية إذا ما اقتنعنا بامتلاكه تلك الثقافة، ضئيلة ومبسطة، وفي الحقيقة لو جلست تحاور أحد الفنانين أو العاملين في هذا المجال لوجدتهم خالين من الثقافة الفنية المبسطة، بل عدم فهمهم لكثير من الأسس التي يقوم عليها الفن والعمل الفني.. في مثل هذه الحالة كيف يمكن أن نطور من أعمالنا الفنية؟
إن ثقافة الفنان: كاتب النص، والممثل، والمخرج، والمصور، وكافة العاملين الآخرين وصولا إلى المنتج ذاته، هي التي ستعني بطريقة أو بأخرى تطورا جديدا في هذا الحقل، ومما يؤسف له عدم محاولة كثير من هؤلاء بأن يطور من إمكانية الموهبة لديه، بالقراءة والملاحظة واستنباط الأفكار الجيدة التي تعينه على أن يكون موازيا لفنانين آخرين في البلدان المجاورة، والذين نعلم جيدا أن كثيرا منهم قد بدأوا من بعدنا في صياغة هذا المجال، ولم نعد نراهم في المسافة الجامعة بيننا الآن لأنهم تخطوا عثرات البداية لديهم، فيما نحن مازلنا في البداية إياها، إن لم أقل عدنا بأنفسنا إلى ما دون البداية تلك!
في حوار له ضمن برنامج الخيمة الرمضانية مع المذيع خالد الزدجالي قبل أيام قال المخرج أنيس الحبيب بأن واحدة من مشاكل الدراما هي عدم وجود الخبرة، وأشار بأن هذه الخبرة لا تأتي إلا من خلال الاستمرار، فكل العاملين في مسلسل اليرام كانوا لا يتمتعون بتلك الخبرة، وإنتاج مسلسل هو إنتاج موسمي، لذا فالخبرة لا تتكون بسرعة، وهذا كلام صحيح إلى حد بعيد، فحتى أنيس ذاته لم تتطور أدواته الفنية بعد لأنه مخرج موسمي، وقد يمضي موسم دون أن يخرج عملا واحدا، فكيف يمكن له أن يطور من أدواته في حال رغبته في تطويرها؟ فبرغم امتلاك أنيس الحبيب لمقومات صورة إخراجية متميزة، إلا أنها هي ذاتها مذ بدأ عملية الإخراج ولم يتقدم فيها إلا قيد أنملة، وهذا ربما ليس خطأه وحده فكما ذكر هو ذاته بأن المسألة تحتاج إلى خبرة والخبرة تعتمد على الاستمرار في الإنتاج الذي هو موسمي ومن جهة رسمية فقط!
ثم أين شركات الإنتاج الخاصة سواء للمسرح أو الدراما؟
تلك هي مشكلة أخرى، فشركات إنتاج الدراما العمانية ضعيفة وكسولة، وتعتمد على مبدأ المغامرة برأس مالها في شيء ندرك جميعا أنه غير مربح تماما في بلاد كبلادنا، فنحن نمتلك شاشة تلفزيونية واحدة هي التلفزيون العماني فقط، وهو يقوم بإنتاجه أيضا، وهو أيضا ليس بذلك الإنتاج القوي، فمن ذا الذي سيشتري من هذه الشركات؟ وهي لا تمتلك خبرة تسويقية ولا تملك علاقات عربية واسعة تؤهلها لأن تجعل من القنوات التلفزية تسارع للشراء منها؟ ولذلك تعتمد على ما قد يجود به التلفزيون العماني عليها!
ولنكن أكثر وضوحا، فغالبنا يعلم بأن هذه الشركات أسسها فنانون في الأصل، محبون للفن ويودون أن يستفيدوا من ورائه، ولكن رأس مالهم يبدو ضئيلا، وهذه حقيقة لا يمكن إغفالها، إلا إذا طالبنا هذه المؤسسات بالمغامرة استدانة من البنوك بمئات الآلاف من اجل إنتاج عمل جيد قد يشتريه التلفزيون العماني وقد لا يشتريه، وقد تتفاوض فيه القنوات التلفزية الأخرى وغالبا ستقول بأن لدينا خططنا الدرامية ونعتذر لكم!
إذن يبقى التلفزيون هو الأمل الوحيد في إنتاج عمل جيد يمكن أن ينافس الأعمال المعروضة في الشاشات الأخرى ويبقي المشاهد العماني متابعا جيدا له، دون أن يقلب على قناة أخرى.. لكن كيف يمكن له أن يحقق هذه الأمنية وما زال النص المعروض هو ذاته الذي يعرض؟ لا أفكار جديدة على مستوى بناء النص الدرامي، والحكايات تظل مكرورة ولا جديد فيها، وكل هذا خوفا من مقص الرقيب الذي لا يتوانى عن مراقبة كل ما قد يسبب له الصداع
حتى في عمل كدرايش الذي أثبت باختلافه على قدرة العمل العماني أن تجذب إليها المشاهد، كان مقص الرقيب حاضرا بقوة.
ودرايش برغم ما قدمه من اختلاف كان أيضا يعاني من بعض الإشكاليات الفنية التي تصب في خانة عدم امتلاك القائمين عليه لثقافة فنية عالية، بالذات في مسألة الكتابة، فالمشاهد لا يعنيه الوعظ والإرشاد لأن العمل الفني ليس إرشادا أو وعض، بل هو عمل آخر تماما، وقد اختلف مستوى الحلقات ما بين الضعيفة جدا والحلقات ذات المستوى الجيد وذلك لتعدد الكتاب والذين تفاوتوا في إمكانياتهم وفي نظرتهم لمعنى العمل الفني، فالحلقات التي كتبها محمد الرحبي تعد من الحلقات المميزة لامتلاك صاحبها رؤية مختلفة لمسألة الكتابة ذاتها، والحلقات التي كتبها محمود عبيد كانت تؤشر إلى رؤيته الخاصة لمعنى الدراما.
وبرغم ذلك فقد حظي هذا المسلسل على نسبة عالية من المشاهدة، لأنه في كل حلقة كان يحاول أن يطرح قضية من قضايا المجتمع ويسلط عليها الإضاءة نقدا بالإيجاب والسلب، كما أنه فعليا قدم أسماء جديدة في الأداء التمثيلي قد تسد فعليا الثغرة في الأجيال الفنية المعتمدة على جيل واحد فقط، فهناك عبد الحكيم الصالحي هذا الشاب الذي يمتلك قدرات فنية عالية ستؤكدها أعماله الفنية المقبلة، وهناك سعود الخنجري الذي بدأ من سنوات وكان مسلسل درايش فرصته الحقيقية لن يخرج طاقاته الحقيقية للعلن وهناك أيضا على عوض وعصام الزدجالي والأخير لم تتح له الفرصة كافية لأن يفجر طاقاته الكوميدية.
وربما لو أتيحت لهذا العمل فرصة إقامة ندوة فنية حوله تطرح من خلالها كافة الرؤى حول الإنتاج والتصوير والإخراج والتمثيل، لربما سيقدم رؤية أكثر جودة في الأعوام القادمة في حال استمراريته.
ولكن لنعد للإشكالية التي تواجهها الدراما العمانية، والتي على إثرها تم تشكيل لجنة لدراسة أوضاعها وكيفية الخروج بها إلى مناطق الضوء التي تعيد لها حراكها الذي كنا نعيشه قبل عدة سنوات..
والإشكالية الأهم للدراما العمانية هي عدم وجود أساس لها! هذا الأساس يتمثل في عدم وجود مسرح حقيقي في البلد، فالمسرح برغم أهميته الثقافية العالية في كل الدنيا إلا أنه في عمان لا يشكل شيئا حقيقيا، وبرغم وجود ما يزيد عن 17 فرقة مسرحية إلا أن هذا ليس كافيا.. فكما ذكرت سالفا: لا توجد حتى الآن ثقافة فنية لدى الممثل والفنان ذاته فكيف يمكن أن تكون هناك ثقافة لدى الآخرين؟ كما أن المؤسسة الرسمية المعنية بتنظيم فعاليات وتظاهرات تجمع هذه الفرق وهؤلاء الفنانين لا تقوم بشيء حقيقي، حتى المهرجان الذي كان يقام كل عامين وأقيم منه حتى الآن مهرجانين، يمشي برجل تبدو مكسورة، والسبب الظاهر هو عدم وجود مبنى مسرحي، والمبنى الوحيد قد تصدع وكان فقط مبنى للشباب الذين بدورهم اختفى مهرجانهم المسرحي الذي يعنى بفرق الشباب المسرحية في المناطق المدعومة من المؤسسة الرسمية والتي تخرج فنانين لا نقول مؤهلين تماما بل مطلعين على أقل قدر على هذا العالم البديع..
أضف إلى ذلك ما يعانيه المسرح من رقابة مضاعفة ومن قلة إمكانيات لدى الفرق، ومن عدم إيمان القطاعات الأهلية ذات المقدرات المالية بشيء اسمه مسرح، حتى وإن كان يمكن أن يشكل لهذه القطاعات دعما إعلانيا جيدا.
المسرح هو الأساس، وبدون مسرح لا يمكن للدراما العمانية أن تتطور ولا حتى أن توجد لدينا سينما مستقبلا، فمن خلال أبي الفنون تخرج الفنون الأخرى، ويخرج للنور مبدعون جدد.
عليه فاللجنة التي تم الإعلان عنها ينبغي عليها أن تنظر قبل كل شيء في هذا الكيان: المسرح، وترى ما يعانيه من إشكاليات ومصاعب، وكيف يمكن تخليصه من الشوائب، وجعله متحركا باتجاه الناس والمجتمع بدلا من أن يكون موسميا بل أقل من الموسمي!
إنني لأطمح فعلا أن أرى إنجازات فنية متقدمة بفعل هذه اللجنة التي أستبشر بها لأن تصحح الوضع الإبداعي في هذا المجال، خاصة أنه إبداع جماعي ويحتاج إلى صرف مالي جيد لا يقل عن المليون ريال التي طرحتها الكاتبة آمنة الربيع قبل مدة في أحد مقالاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق