قلت:
لا شيءَ يبقى على حالِه للولادة وَقْتٌ وللموت وقتٌ وللصمت وَقْتٌ وللنُّطق وقْتٌ وللحرب وقْتٌ وللصُّلحِ وقْتٌ وللوقتِ وقْتٌ ولا شيءَ يبقى على حالِهِ كُلُّ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ والبحرُ ليس بملآنَ، لاشيءَ يبقى على حالِهِ كُلُّ حيّ يسيرُ إلى الموت والموتُ ليس بملآنَ، لا شيءَ يبقى سوى اسمي المُذَهَّبِ بعدي: (( سُلَيمانُ كانَ )) فماذا سيفعل موتى بأسمائهم هل يُضيءُ الذَّهَبْ ظلمتي الشاسعةْ أَم نشيدُ الأناشيد والجامعةْ؟ باطلٌ، باطلُ الأباطيل باطلْ كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ!
ثم مضيت!
(2)
وترجلت الآن عن حصانك أيها العظيم، ترجلت عن صهوة الحياة، وقلت كلمتك الأخيرة عندما لم ينفع الشعر في أن يجعل من الأخ أخا ومن العدو عدوا! ترجلت ورحلت هكذا بكل بساطة دون ضجيج أو افتعال، كما تنبأت بذلك من قبل، وأشرت إلى أن موتك سيكون عاديا جدا، برغم أنه المفاجأة التي لم يتوقعها لا قريب ولا بعيد، ولأنك هزمت الموت أيها العظيم، هزمته بإبداعك وقامتك الشعرية العظيمة قلت في وصيتك: اخلعوا الأنابيب الصناعية! لقد باغته هذا الكبير والمخيف، وتصالحت معه، ولم تعد تخافه كما ذكرت من قبل!
وتركتنا، تركتنا مشفقين على أنفسنا يا آخر عظماء الزمن الرديء، زمننا العربي الرديء، هذا الزمن الذي من رداءته القاسية بات لحما نتئا لا تقربه لا الغربان ولا النسور! وهو لنا وحدنا، لا يتناسب مع أي أمة من الأمم!
(3)
مازلت حيا يا درويش في مكان ما، كأنك مت قبل الآن، وقلتَ: أعرفُ هذه الرؤية وأعرفُ أنني أمضي إلى ما لستُ أعرفُ. رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكان ما، وأعرفُ ما أريدُ...
وأنت حي يا درويش، حي لن تموت، لأن من علم إيقاد شعلة كبريت ليلعن بها ظلمات الزمن الرديء لا يموت!، وستصير يوماً فكرةً. لا سيفَ يحملُها إلى الأرض اليباب، ولا كتابَ...كأنها مطر على جبل تصدَّع من تفتُّحِ عُشبة، لا القُوَّةُ انتصرت ولا العدلُ الشريدُ ! ستصير ما تريد أيها العظيم، وأنت صرت فلا تخف بعد اليوم أن يهاجمك الموت، لأنك هزمته بكل بساطة، وستصير يوماً طائراً، يحلق فوقنا وترى زمنا يشرق، زمنا لا أسود يغتاله، وبلاد بعيدة تقترب، وبلاد ساعتها لها ألف أثر!
وكُلَّما احترقَ الجناحانِ اقتربت من الحقيقةِ. وانبعثتَ من الرماد! لحظتها أيها العظيم ستصير حوارُ الحالمين، أيها الغياب السماوي، ستصير أخيرا شاعرا الماء رهن بصيرته ولغته مجاز للمجاز!
(4)
الفكرة هذه المرة أنك وجدت كل شيء يتساقط ويهوي من علو شاهق ويتفتت في الأرض الحرام! الأخوة أصبحوا غير ذلك، والدم المحرم بات نبيذا لم تشرعه الشرائع، والعدو المرابط يتفرج بصمت وابتسامة سامة تتراقص على الوجه البغيض!
فما جدوى الشعر إذن؟ ما جدوى أن تحترق الأعصاب أكثر بقصيدة أو أخرى، وكل الرفاق الذين نحبهم رحلوا، ذهب الذين نحبهم ذهبوا وتركوك تتفاءل بقصيدة أخيرة، بكلمة ومجاز أخرين! ولكن لا أحد هناك ينصت: من الجحيم إلى المحيط ومن المحيط إلى الجحيم، جاءوك يعدون المقصلة، وأنت يا أحمد العربي كنت اغترابَ البحر بين رصاصتين مُخيَّما ينمو، ويُنجب زعتراً ومقاتلين وساعداً يشتدُّ في النسيان ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين
ستين عاماً كنت تسألْ وترحل! باحثا عن هوية لتصاب بالبركان، ثم بعد ستين عاما يحمل الأخ مقصلة ويشهرها في وجه الأخ! فأنت منذ الآن غيرك وتطلق السؤال مدويا: هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟ وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
يا للسؤال الحارق الذي أشهرته في وجه الأخوة، الذين لم يستطيعوا إلا أن يكسروا التمثال ويقعدوا أسفل منه ليقولوا للعالم كله: نحن استثناء!
وقلت: أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك! أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
وتناسى القوم أنهم المختارون للمحنة، تناسوا عمق الفجيعة وراحوا يدورون حول كرسي فارغ بلا قيمة، وكل عين يا أيها العظيم تتقاطر بالدم، فقلت للماضي لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك، وللمستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف!
وطلبت من حاضرك الذي تركته الآن أن يتحمل سوءة الأخوة عابري السبيل ثقلاءِ الظل الذين فرطوا في الهوية والتي هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة
والسؤال ما زال يراودك في اللحظة الأخيرة : هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: "الله أكبر" أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟ من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟
بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!! لذا أنت يا أنت يا أنت، منذ الآن، غيرك!
(5)
لعلك الآن تتوارى خجلا! لكن لم الخجل أيها العظيم؟ وأنت الذي صنع الحكاية بكلماته التي رددتها العصافير، وحملها حصانك المذهب بالشعر إلى أبعد من ذات القضية، أبعد بكثير من ذات البشر، الشاعر، العاشق، الغريب!
الغريب يعرف جيدا ما هية حكايته، ونحن نعرف أننا لا نعرف ما وصلنا إليه من سقم وذل وطين! نعرف أننا الآن نرحل إلى سواد الزمن العربي الرديء ونعلن أن الصالحين فعلا يرفعهم الله إليه، لكي لا يبقى لنا سوى أصحاب الشركات وبائعي العسل المسموم، والعاهرات، والمتجولين الغرباء الذين لا يرتدون وجهنا، ويدعون أن الباب لهم، والباب يا سيدي ليس بابا من ذهب، ولا حتى من خشب، باب يفتح على الجحيم لأننا لم نفتح بمفتاح الشرف والحب، فتحناه بمطرقة النسيان: نسيان ما كان، وتذكر الآن فقط!
هل تواريت خجلا؟
لا، إنما ذهبت إلى ما تريد، وصرت كما قلت كرمة: فليعتصرني الصيفُ منذ الآن، وليشرب نبيذي العابرون على ثُريّات المكان السكّريِّ! أنا الرسالةُ والرسولُ أنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ سأصير يوماً ما أريدُ، ستصير يوما ما تريد يا درويش، وقد صرت لا خلاف على ذلك، لكنني أبحث اليوم عن معنى أخير لكلمة الاختلاف!
(6)
والعابرون؟
العابرون اليوم يفرحون، ولا يدرون أنك الآن حر طليق، لا يدرون أنك الآن أعظم من كل ما كان، أعظم من كل الحكايات التي تغنيها الجدات لأحفادهن كي لا ينسوا الوطن، فالوطن أنت منذ الآن، والعابرون عاجزون عن أن يقتلعوا جذورك الضاربة فينا، عاجزون عن أن يقولوا اخرجوا واتركوا المكان لنا!
جذرك قوي، مهما فعلوا! وهم عابرون في كلام عابر: كالغبار المر مروا أينما شئتم (هكذا قلت) ولكنلا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة! خلنا في أرضنا ما نعمل ولنا قمح نربيه و نسقيه ندى أجسادنا: ولنا ما ليس يرضيكم هنا حجر.. أو خجل فخذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم على صحن خزف لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل... كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس! أو إلى توقيت موسيقى مسدس فلنا ما ليس يرضيكم هنا ، فانصرفوا ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف وشعبا ينزف وطنا يصلح للنسيان أو للذاكرة آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا آن أن تنصرفوا ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا فلنا في أرضنا ما نعمل ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأول ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ولنا الدنيا هنا والآخرة فاخرجوا من أرضنا من برنا من بحرنا من قمحنا من ملحنا من جرحنا من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة.
(7)
دمعتان إذن تحاولان أن تكفرا عن خطأ تغلغل في الروح الضعيفة، ولكنهما أبتا الخروج وقالتا لي: نحن لا نستحقه! نحن لا نستحقك اليوم ولا غدا، لا نستحق سوى أن نتماهى أكثر فأكثر مع تيهنا الذي تجاوز الأربعين عاما ولم نخرج! لم نجد الأرض المقدسة ولا خيول العودة إلى أبوابنا الأولى! وحصانك الذي جاء يصهل لنا بح صوته وعاد بلا فارس ولا قصيدة، فالقصيدة وقعت على الأرض الخراب، دمرتها أقدامنا العارية المشقوقة لا بأيدي الغرباء المتجولين بل بأيدينا!
نحن الآن نحن
وأنت هناك
تنسج قصيدة أخرى
ويعتصرنا الألم
وأنت
أنت لا أحد سواك
سيحمل شمعة
تفتح باب الظلام
لا أحد سواك
ونحن نحن الآن
يرجمنا الحاضر بغد
نقول: أن تفاحه لنا
لكننا لا نزرع التفاح
نزرع الدم!
نحن الآن نحن
وأنت ما عدت الآن
سوى ما تريد
(8)
فيا موت انتظرني ريثما أنهى تدابير الجنازة في الربيع الهش حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه سأقول صبّوني بحرف النون حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو زهر المحبطين يذّكر الموتى بموت الحب قبل أوانه وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء، إن وجدت وبعض شقائق النعمان، إن وجدت وإلا فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس....
تلك إذن هي وصيتك الأخيرة قبل سنين، وليس للراحلين سوى وصاياهم الأخيرة يبحث عنها الضائعون، لا ليقرؤها، بل ليبكوا على أنفسهم التي ما عرفت كيف تختار لحظة موتها!
مضيت إذن، وحصانك الآن وحيد، حصانك الشعري وحيد في ظلمة أيامنا العربية، وسنتذكر أنك هزمت الموت وفاجأتنا في النهاية بأنك الذي حاصرته وانتصرت! حققت المفاجأة تلو المفاجأة، والأخيرة كانت القمة! كنت إذن في القمة كصقر يشاهد آخر اللحظات ويبتسم دون أن يخاف مرددا:
لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات:
أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةُ،
كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي
وأَنا البعيدُ
أَنا البعيدُ
(9)
وهكذا،
طار الحمام وطار! لم يعد له أن يعود الآن، وما بقي منه سوى ريش ناعم يهطل كما يهطل المطر!
(10)
إذن، وداعا يا درويش!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق