السبت، 30 أغسطس 2008

صورة رجل ثقيل لا يحب المزاح!


أما بعد،،،
فإنه لمن المدهش جدا أن تكون مثقفا وتتمتع بحس الحياة! بحس الدعابة على وجه الدقة دون أن تثار إذا ما صفعك أحدهم بنكتة خفيفة أو بمقلب ما!! لذا توصلت إلى اكتشاف مهم هو أنه من الأفضل لكم ألا تكونوا مثقفين! لأن ذلك سيفقدكم حس البراءة في التعامل مع الأشياء، ولحظتها ستكفون تماما عن الضحك والمزاح لأن لكم صورة "ثقيلة" يجب أن تظل تمارس ثقلها السمج والفظ!
والمثقف العماني واحد من هؤلاء وهو فعليا يعاني من عقدة هي أنه لا يريد أن يظهر بمظهر الإنسان المرح الذي يمزح ويضحك مع العامة والذين من حوله لأن له صورة لا ينبغي أن تنكسر! صورة الإنسان المهموم بمسائل الحياة الثقيلة وهموم الناس، والبحث لهم عن إجابات لمسائل معيشية متنوعة تبدأ بالبحث عن الخبز ولا تنتهي عند البحث عن منزل للسكن!
هو هكذا يعيش حياته: ناقما على الأوضاع التي قادت الأمة كلها إلى السقوط في هوة السطحية والتمزق الإنساني، ومحملا الحكومة ورجالاتها مأساة المجتمع المعاصر، ومطالبا في كل أوجهه بالعدالة وبحقوق المواطن، وبالأساسيات الصغيرة التي لابد لهذا المواطن أن يحيا بها!
ومن أجل ذلك فهو يبقي على صورته الكبيرة والثقيلة، ويلمعها محاولا ألا يصيبها أي خدش من أي نوع، لأن ذلك الخدش هو خدش لإحساس المواطن البسيط الذي ينظر إليه على أنه شيء كبير يجب أن يحترم (بالطبع هذا نوع، وثمة أنواع لا تعنى بأن تجلب لنفسها الاحترام لأنها تمارس حياتها الشخصية أولا ولأنها هي الصواب المطلق الذي يجب إتباعه والإيمان الخالص به، سواء في بار أو في شارع!)
وهذه الصورة العمانية هي صورة لأغلب المثقفين العرب: مثقف يعيش على حافة الحزن لا من أجل نفسه، بل لأن الانكسارات العميقة التي تعيشها الأمة هي ما يجعله يعيش هكذا محزونا منكسرا غير قابل لأن يمرح قليلا أو يسري عن نفسه بمداعبة ما مع أناس مثقفين مثله أو عاديين، ومن أجل أن يكسر حزنه العميق من مجتمع يضيع عليه أن يشرب أكثر وأن يسب العالم الذي من حوله: بدءا من الحكومات التي تتعامل مع المشاريع الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية، وأن يسبك أنت أيضا أيها المواطن لأنك إنسان تافه لا تملك عقلا تدير به حياتك أو تثور به على أوضاعك البائسة، ولأنك تفكر فقط ببساطة في لقمة العيش وكيف تربي أبناءك على الفضيلة وعلى العادات والأخلاق التي يراها مثقفنا "الثقيل" بأنها من مخلفات الحضارة الإنسانية!
لذا لا تحاول أيها المواطن أن تضحك مع هذا الإنسان لأنك تجرح له مشاعره الوطنية التليدة، وشعوره بأنك في أزمة هو معني بها، وبإيجاد الحلول الخاصة والعامة بما يتوافق مع عقليتك التي بكل تأكيد لا تصل إلى عقلية هذا المرهف الحس مطلقا! لا تحاول أن تضاحكه في يوم بنكتة أو بمزحة لا خفيفة ولا ثقيلة، ولا تكلمه كلاما عاميا لا متقعرا ولا معتدلا، بل كلمه بفصحى وسط إن أمكن لأنك تهينه في أفعالك تلك وتجرح كبريائه الذي ما كان سيوجد إلا من أجلك أيها المواطن! لا تلتقط له صورة غير التي هو عليها: صورة رجل ثقيل يجب أن تظل صفحته الإعلامية بيضاء دون أن توجه له نقدا ما أو تهكما من أي نوع، أو حتى تنشر صورة لك معه وهو يقبلك على الخد ضحكا، لأنك تهينه بذلك وتدمر صورته الوقورة.
وكن على يقين عزيزي المواطن: المجتمعات التي تخلو من مثقفين؛ هي مجتمعات محظوظة، ومن الأفضل أن تشد إليها رحالك لأنك لن تضطر إلى رؤية أحد من هؤلاء الذين لا يحبون حياة المرح، وإن وجدتها في رحلتك فأرجو أن تخبرني عنها وتدلني على طريقها كي أفر من وجوه المثقفين ثقيلة الظل والبليدة التي أشاهدها في حياتي كل يوم!

الأحد، 24 أغسطس 2008

من شرفات إلى أقاصي، من أقاصي وأخواتها إلى شرفات!


(مقال رفضته أسرة تحرير شرفات، لأنه يوجه نقدا ما!!)



منذ الأشهر الأخيرة في عام 2006م، في تلك السنة الثقافية، بدا أن مرحلة من التقهقر بدأ يعانيها ملحق شرفات في المجمل، لا لشيء، فقط لأن الكتاب المعتادين الذين ما فتئوا يطرزون صفحات الملحق بإبداعهم وكتاباتهم ـ التي أثبتت بلا شك أن العمانيين أيضا يمتلكون قدرة الكتابة وليسوا فارغين كما يحلوا لبعضهم أن يلصق ـ قد انصرفوا يائسين على ما يبدو من إيجاد حالة ثقافية صحية جيدة على صفحات الجرائد، بعدما وجدوا أصواتهم محاصرة ضمن أطر دائما ما تحاول أن تضيق على المبدع أينما كان، وبالذات في بلاد لا تعتبر الثقافة إلا ترفا زائدا لا حاجة للمجتمع له!
في هكذا مناخ نشأ تراجع هائل لملحق شرفات الذي كان الاسم الثاني من بعد مجلة نزوى يرتفع في كلام متابعي الثقافة من الخليج إلى المحيط ومن المحيط إلى الخليج (هذه النقطة بالذات ليست إدعاء زائفا وإنما حقيقة يمكن لمن يشكك بها أن يذهب للسؤال بين كثير من أوساط المثقفين العرب)
سبب هذا التراجع كما ذكرت، هو ذلك الانصراف المدهش والكبير لمن كانوا يكتبون في الملحق، أسماء لها رصيدها الإبداعي وثقلها الثقافي، ممن يتضايق البعض الآن من ذكرها حتى ضمن مقال عابر كهذا المقال، والذي لا أريد له شطبا من الوهلة الأولى بذكر تلك الأسماء الفاعلة، لأن أحدنا ليس بمقدوره إلا الإنصات لصوته الداخلي فحسب، ويظن كل الظن بأن الصوت الآخر ما دام مفتتا لفكرته هو، ونافيا لها ومضادا كبيرا لها، فإنه خطر ينبغي تجنبه وعدم ذكره (هذه ليست إشكالية ثقافية حاضرة عند مثقفينا الأعزاء أو من هم أنصاف مثقفين متحكمون على نحو أو آخر في ما ينبغي قوله أو ما لا ينبغي في الواجهة الإعلامية أيما كانت بل هي حالة موجودة في كل المجتمعات العربية، حيث ينزوي المثقف متخليا عن أدواره مكتفيا بالتزمت والتذمر وإبداء الحزن على وضعية مجتمع ضائع والتي يبددها بالدخول في أجواء السكر والشراب)
أيضا فإن الأمور المادية التي تم تقليصها عن البعض وسحبها من البعض الآخر، والمماطلة فيها وكأنما هذا الكاتب الذي يقدم كتاباته للملحق ليس عليه سوى أن يكتب دون أن ينتظر أجرا، وعندما يسأل يشار إليه بأنه مثقف مادي! ويتناسى المحرر المحاسب بأن الكاتب أيضا يجتهد في الكتابة من أجل يخص الملحق بمادة له وحده دون غيره، وبأن يساهم في رفع قيمة الجريدة التي تبحث عن إعلانات لكي تعيش هي الأخرى والتي لا تأتي إلا من خلال طرح مواضيع تجذب القارئ ومن خلال أسماء كتاب لهم جمهورهم الذي لن يتوانى في البحث عن الجريدة والقراءة لمن يحبه من الكتاب (هذه النظرية تبدو مفقودة في الإعلام العماني، فحتى المعلنون لا يفكرون هكذا بمقدار فكرتهم بأن كثيرا من إعلاناتهم هي دعم للجريدة وأيضا ابتعاد عن الألسن الصحفية!)
كذلك عدم وجود محرر ثقافي عارف بالعمل الصحفي وممارس جيد له وقادر على التعاطي مع مختلف الأوجه الثقافية والأطياف الكتابية دون انحياز لأحد دون الآخر، ودون تكاسل في العمل الصحفي، جعل من المحلق أيضا يتراجع تراجعا جعله يصبح كل أربعاء بلا أهمية واعتياديا أكثر من أي ملحق صحفي معني بالثقافة ينشر في الصحف الأخرى، بل إن المادة التي تنشر فيه في كثير منها تبدو أقل من مستوى صفحة بريد القراء، التي تهتم بدعم المحاولات الكتابية في طورها الأول وتدعم أولئك القراء الذين لا يفكرون سوى في إبداء الرأي في أمر ما، وفي حالات غالبة لا يسعى هؤلاء القراء العاديون لتطوير ما قد يبدو ملكات كتابية جيدة، ولا حتى محرر الصفحة إياها يعمل على دعمهم وتشجيعهم بكلمة قد تكون هي البارقة التي يحتاجها ذلك القارئ الكاتب العادي.
ونحن هنا لسنا في صدد الحديث عن مثل هذه الصفحة، بل كان مجرد تشبيه أعتذر مسبقا عن طرحه لكافة القراء العاديين، أعتذر عن مقولة أن ملحقا ثقافيا موجها للنخبة يتحول تدريجيا إلى ما يشبه صفحات بريد القراء!
هكذا تحول شرفات في نهايات العام الثقافي إلى ملحق ضعيف في مادته الثقافية وليس به محتوى صحفي ثقافي كالحوار والاستطلاع وقراءات الكتب والبحث وراء جماليات الأشياء (حتى في البدايات وإلى تلك اللحظة بدت هذه الاشتغالات الصحفية غير موجودة في المجمل، وهي كذلك لسبب يبدو جيدا، وهو جعل الملحق منبرا للمثقف العماني الذي لم يكن يجد أي منبر للنشر الثقافي الرصين، وأيضا يبدو عدم وجود كادر تحريري ثقافي مؤهل سببا واضحا لتلك القطيعة مع فنون صحافية يحتاجها ملحق كشرفات)
أنا شخصيا لم أعد متابعا جيدا للملحق، بل إنني تخليت عن تلك العادة: عادة أرشفة كل الأعداد في ملف خاص بها، والتي بدأت مذ كان محلق شرفات ملحق عمان الثقافي، مذ عام 1997م تحديدا، عندما كان يصدر كل خميس، ثم مع في بدايات الألفية الجديدة أصبح يصدر كل أربعاء، ثم حل الملحق الجميل شرفات ليكون شرفة ثقافية لا تطل على عمان فحسب بل على كثير من البلدان العربية.
في تلك اللحظات أيضا ظهر إلى الوجود هذا الملحق: أقاصي، وكانت النكتة: ملحق داخل ملحق وهي حالة لأول مرة تحدث في اشتغال صحفي!
لكن لم يكن من مانع ما دام المحلق الداخلي سيجعل من الملحق الكلي ملحقا ثقافيا جيدا بعدما توالت انكساراته في عام يفترض أنه عام ثقافي.. بل إن الجميل حقا هو أنه كان سيورد نصوصا قصصية وسردية، وحوارات صحفية، واستطلاعات وانتقاءات أدبية، وأخبارا معنية بالقاصين العمانيين، بشؤونهم وإبداعهم، وكذلك كان سيورد مقالات تبدو نقدية تسلط الإضاءة على تلك الإبداعات التي ينتجها القاصون وينشرونها!
كان يمكن أن يكون ذلك، ولكن واقعا كان أقاصي الملحق الداخلي يعاني في غالب الأحوال من ضعف مادته الثقافية، بل بكونه ملحقا ضمن ملحق كان يزيد من كمية سوء الملحق الكلي: شرفات، الذي يمر بأسوأ أيامه!
أقاصي كان يمكن له كملحق مختص أن يقدم شيئا مختلفا في الحراك الثقافي الصحفي، ولعل فرصته كانت في تقبل شرفات الملحق الكلي لصياغتين أخريين: الجسر ومن ثم نون، ملحقان داخليان أيضا، كان يمكن بوجودهما أن يظهر أقاصي بشكل أكثر قوة، وكذلك الملحق الكلي شرفات، ولكن الضعف العام الذي أيضا كان يساور الملحقين الإضافيين الجديدين، جعل سمة الضعف متلازمة للكل، وكأنما الحسنة تخص والسيئة تعم!
الكلام السابق لا ينفي أن الملاحق الثلاثة الداخلية كانت تشكل حالة صحفية جيدة في فكرتها العامة، وتقدم في كثير من الأحوال مادة ثقافية لا تقل جودة عما كان ينشر في شرفات الملحق الأصل قبل عدة أعوام، غير إن عدم وجود الدربة الصحفية والتفرغ الكافي جعل منها ملاحق تساهم بشكل أو بآخر في صنع ضعف عام، سيما في ظل الفكرة المستمرة إياها: ملحق داخل ملحق، وشكل داخل شكل!
هذا في حال التجزيء، لكن إذا ما نظرنا إلى الأمر بكلية، إلى شرفات على أساس أنه الملحق الأشمل الذي يمكن له أن يحتوي داخله ما يشاء من "ملاحق" ثقافية تقدم مادة جيدة، لقلت أيضا بأنه عموما ملحق مصاب بالضعف، ليس لأنه فقد بريق أسمائه التي كانت تكتب فيه فحسب، بل أيضا لضعف المستوى التحريري فيه، والاكتفاء في مرحلة معينة بالمقالات والنصوص فقط دون إضفاء صيغة تحريرية تمارس عمقا في الطرح، وتحاول أن تماشي تلك المقالات المطروحة، والتي على ما يبدو كان همها أن تعبئ الصفحات الفارغة فقط، سيما عندما يكون العدد فارغا من أحد الملاحق الداخلية الثلاثة.
ضعف الإخراج الصحفي، وافتقاره للجماليات الفنية الحقيقية جعل الأمور تزداد سوءا وضعفا سواء من حيث الإخراج العام، أو من حيث استقلالية الملاحق الداخلية الثلاثة في صيغتها الإخراجية محاولة الخروج من ربقة شرفات وإيجاد كينونة خاصة بها.
وكما أعرف أن الإخراج الصحفي ضرورة ملحة من أجل جذب القارئ للمادة، حتى إن افترضنا أن تلك المادة ضعيفة المستوى، فالمهم هو الشكل العام قبلا، والناس لا تقرأ المادة بل يجذبها الشكل المتناسق قبل كل شيء كما أفترض، وعلى الأقل هذه وجهة نظري.
إذن فكل الأمور كانت تسير إلى تقهقر وتراجع حتى بدت كوة النور تخرج بعض الضوء عندما انتقل شرفات ككل إلى فكرة مؤداها أنه ملحق واحد وما يحتضنه لا يجب أن يشذ عن تلك القاعدة، حتى على المستوى الإخراجي، وهذا الأمر ربما أزعج القائمين على أقاصي والجسر ونون، دون أن يدركوا جميعا أن الوحدة الجمالية تقتضي أن ينساقوا ضمن بناء واحد دون إخلال به، بناء لا تخرج منه النتوءات، مما سيساهم بشكل أو بآخر في إضفاء قوة على مواد الملاحق المصطنعة في داخله.
التحرك نحو التجديد جعل الملحق مقروءا ككل مجددا، ولم يفتته إلى جزئيات قابلة للفصل، وما بات في أقاصي منشورا، فهو أيضا في شرفات، والأمر إياه عند المحلقين المرفقين الآخرين.
كما أن نزعة التحرير المركزي لم يخول المشرفين على مواد المرفقات الثلاثة أن ينشروا ما هب ودب، دون أن تكون هناك رؤيا قائمة على البحث عن ما هو جيد للنشر ضمن نسق عام لا يخل بشرفات الكلي، وكما أنا وجود مادة صحفية تتمثل في قراءات الكتب والجماليات عموما، وإيجاد حوارات ثقافية، واستطلاعات صحفية جيدة، وإيجاد عمود تحرير وأخبار وعمود صحفي متوزع على الجميع، ساهم بكل تأكيد في صحوة شرفات، تلك الصحوة التي بكل تأكيد ستسهم بشكل أو بآخر في جعل أقاصي المرفق مادة ثقافية جيدة وقابلة للاحتفاظ.
كل ما أتمناه هو إيجاد صحفيين ثقافيين، قادرين على أن يقدموا مادة صحفية ذات طابع ثقافي مميز، وليسوا مجرد موظفين قائمين على جمع مواد لا تمثل في حقيقتها إلا أقل من الثلث في العمل الصحفي الثقافي..
وفي كل الأحوال تنبغي كلمة شكر لمن فكر في التطوير، ولمن ما زال يساهم في دعم هذا الملحق، وبالطبع فالشكر الأكبر لمن بادر يوما بصناعة ملحق يضفي حراكا ثقافيا مميزا في ساحة تفتقر إلى أقل الأشياء: وعي المثقف بطبيعة دوره في المجتمع، ومؤسسة ثقافية حقيقية!

السبت، 23 أغسطس 2008

مع الطيران العماني!



أما بعد،،،
فجميل أن تسافر على متن الطيران العماني في رحلات سفر داخلية وخارجية، فأما الداخلية فأنت ملزم بها وفق مقولة السيادة الوطنية التي سمعتها وقرأتها قبل مدة، ولا أعرف لها مبررا حقيقيا في نظام السوق المفتوح التنافسي الذي يعطي المواطن حق الاختيار على أساس الخدمات المقدمة، وفي ظل التنافس تغدو الخدمات التي تقدم أفضل جودة وأكثر قدرة على تلبية رغبات هذا المواطن، وبما أنك ملزم بالحق السيادي فعليك تحمل ضعف الخدمات المقدمة، كأن تعطى سماعة معطلة أو أن تجلس في كرسي ضيق بقنوات إذاعية صامتة، أو أن يتجاهل المضيف طلبك في مشروب ما ويلزمك بأن تأكل مما تبقى في قائمته من مأكولات لا تستحق الأكل أصلا!
أيضا عليك أن تتجاهل كذب مركز الاتصالات عليك عندما يقول لك بأن الرحلات في يوم ما تريد السفر فيه كلها ممتلئة بالمسافرين، وعليك أن تتيقن ساعتها بأن هناك موسما سياحيا جيدا بل أكثر من ممتاز وإلا فلماذا كل الرحلات ممتلئة بالمسافرين؟ حتى إن اكتشفت عكس ذلك بعد أن ينالك الحظ وتركب الطائرة فتكتشف أن الرحلة ليست ممتلئة على آخرها، وحتى إن قال لك أحد الموظفين الطيبين بأن الطائرة فارغة، ولكنه لا يستطيع تقديم رحلتك أو تأخيرها لأن الحاسب الذكي لا يعطيه ذلك الحق، واسمع لنصيحته بالذهاب إلى المطار ولسوف يساعدونك في النهاية وتركب الطائرة في الرحلة التي تريد، حتى إن لم تجد أحدا لمدة ساعة وأكثر في كابينة الطيران الوحيد في المطار الداخلي، إذ انك ستجد فرصتك لا محالة!
تجاهل ذلك وبكل تأكيد ستصعد إلى الطائرة، وسيطلب منك قائدها أن تحزم نفسك في الكرسي، لا لأن السفر مع الطيران العماني متعب أو غير مريح، فلا والله هو عكس ذلك تماما، إنما لأن الطاقم يريد أن يضمن لك كل السلامة والتقيد بالنظام المعمول به في كل الطائرات المدنية بالعالم، لا لأنك عندما تهبط الطائرة ستقفز قفزتين من كرسيك وتحس بأن الطائرة هبطت بسرعة غير مبررة، بل لأن تلك الخدمة لا توجد إلا بالطيران العماني!
المهم أنك ستصل سالما غانما، حتى إن تأخر وصول حقائبك ساعة أو أكثر، فذلك ليس لأن خدمة سيئة هي ما أدى إلى ذلك، بل لأنهم يحملون الحقيبة تلو أختها بكل حنان حتى لا تتبهدل الأشياء الموجودة فيها أو تتكسر!
وعندما تحصل على حقائبك وتخرج من مطار مسقط الدولي عائدا من أرض الوطن أيضا في أقصى الجنوب بعدما هنئت بالخريف وغياب الشمس والخضرة والوجه الحسن، تحسس جسدك فلربما وأنت تنزل من الطائرة تعمدت أن تسقط عضوا منك لكي تتهم الطيران العماني بالسوء، وتنادي بأعلى صوتك بالشفافية وبالمنافسة التي تتيح لشركات طيران أخرى أن تدخل مضمار تقديم خدماتها للطيران الداخلي كي يتحسن مستوى شركة الطيران الوطنية التي تنتمي لها! ولا تصرح وقتها بأنك إن رغبت في السفر في رحلة خارجية فإنك ستختار أجنحة أخرى غير أجنحة الطيران العماني، ما دام الفرق المادي لا يتعدى العشرة ريالات أو أكثر بقليل من ذلك، فالمهم أن تكسب راحة بالك، إذ تيقن أن راحة البال لن تتأتى إلا مع الخدمات المميزة التي يقدمها الطيران العماني! وفقك الله في حلك وترحالك، وأعادك للوطن سالما غانما!

الأربعاء، 20 أغسطس 2008

وصية حنا مينة الأخيرة


كتب حنَّا مينه يقول: ‏


"أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه « لكلِّ أجلٍ كتاب ». ‏ لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمِن الشاكرين. ‏ عندما ألفظ النَّفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. ‏ كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرَّست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل. ‏ لا عتب ولا عتاب، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النعم. ‏ أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قراء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. ‏ لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها. ‏ كل ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. ‏ زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكل إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه".

السبت، 16 أغسطس 2008

بعد ألف عام قادمة


أما بعد،،،
فزمن الشعر انتهى الآن! ويا أيها الشعراء عودوا إلى خيامكم، وأعدوا عدة رحلة شاقة تبدؤون من خلالها البحث عن شاعر جديد يحيي لكم ما مات!
كم من الوقت ستحتاجون الآن كي تعاودوا النهوض والصعود إلى علٍ، إلى حيث الشمس تشرق والعصافير تغرد بكلماتكم، وصوتكم يحفر موقعه بكل أصالة في قلوب الناس؟
ألف عام تكفي؟!
ربما، وربما لا، فالأمر هذه المرة أصعب مما كان، أصعب من رحلة الذين عاشوا على فلة التفاؤل ولم يجدوا شيئا يقولونه بعد كل الهزائم التي توالت سوى قصيدة حب أخيرة وقلب يتسارع في خطوة إلى النهاية! كانت قلوبا تبحث لنا عن خلود أبدي من خلال القصيدة، وكنا لا نعي ذلك مطلقا، لا نعي إلا التجهم في وجوههم واجتراح كلام سيء فيهم، كأنهم ليسوا منا، وكأننا كنا نحن الصالحون فقط دون سوانا!!
من نحن كي نقول ذلك؟ من ونحن لا نملك إلا الضحك والسقوط في بئر الحلم بأننا الأفضل! لم نكن شيئا والآن نحن لا شيء، فمدننا دون شاعر لا قيمة لها، حضارتنا التي نفاخر العالم بأنها الحضارة ولا حضارة دونها اليوم لا شيء، لا شيء، فشاعركم أيها العرب مات، مات وفي قلبه غصص لا تعد ولا تحصى، غصص الهزائم التي عايشها مذ ستين عاما وما زالت تتواصل إلى اليوم! وهو كان لا يزال متفائلا بقصائده التي منحتنا الحياة ومنحته التعب والعذاب!
وفي المقابل، يراهن بعضنا على سوق عكاظ الجديد، سوق الاتصالات القبلية التي ستحيي القصيدة الجديدة، وينادي منادٍ يقول: من يفوز؟ من يفوز بالبردة والخاتم والمليون؟ باب التصويت متاح حتى ختام الحلقة، باب الشراء متوافر حتى آخر دقيقة، والآن سنعلن عن أسماء أصحاب الألقاب: شاعر الرومانسية، الواعد، الحب، المرأة، السلام، القضية، والقضية باتت لعبة رسائل هاتفية تغوص في أعماق الاضمحلال!
هذا هو السوق الجديد، سوق الشعر الجديد، وقريبا تعود القصيدة فوق ظهر الحصان تعدو لتصل إلى الربوة تبحث عن شاعرها الأخير ولا تجد سوى الخراب، فتسقط من جديد، تسقط في الوحل هذه المرة، ولا تسمع مناديا يطلبها لأن الشعر مات ومات أصحابه اليوم!
والآن: بين المتنبي أحمد بن الحسين، ومحمود درويش قرابة ألف عام كانت بلا شاعر حقيقي، بلا مثقف قادر على أن يعطي الثقافة معنى حضاريا أكبر مما هو عليه، ليس مؤدلجا ولا يبحث سوى عن القصيدة فحسب، تلك التي تغني اللغة وتحييها، فهل سننتظر ألف عام قادمة كي يأتينا من يكون بقامة اللذين رحلا وتركا الناس ساهرة باحثة عن الغريب وعن سلالة الشعر الأخيرة!

الثلاثاء، 12 أغسطس 2008


لاعبُ النردِ

مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً
صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...
أَنا لاعب النَرْدِ ،أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :
أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونجٍ ساخنٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدةْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /
كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّةْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّةْ
فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّرأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ
كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ الُمعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ على البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى !
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رمية النرد
ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد اﻟﻤﺠزرةْ
نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً على إخوتي وأَبي
وخفتُ على زَمَنٍ من زجاجْ
وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي
وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت على عِنَبِ الداليةْ
يتدلّى كأثداء كلبتنا ...
ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِحافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أريدُ
من الغد - لا وقت للغد -أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ /أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أسرعُ / أبطئ / أهوي/ أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ/ أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ/ أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى/ أرى / لا أرى / أتذكَُّر / أَسمعُ / أبصرُ / أهذي /أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أجنّ /أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أدْمَى/ ويغمى عليّ /ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيشِ /لا دور لي في حياتي
سوى أَنني ،
عندما عَلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...
كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أطيل سلامي
على الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...
ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا !
مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟
كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
« إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ »على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
إلى غيرها « أَنايَ » من
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ
كان يمكن ألاَّ أحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلى السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...
هكذا تولد الكلماتُ . أدرِّبُ قلبي
على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتانِ :أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّلنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّا
ًومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !
يقول المحبُّ اﻟﻤﺠرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة
للحياة أقول : على مهلك ، انتظريني
إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع
الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /
حتى على الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /
لولا وقوفي على جَبَلٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلى !ولكنَّ مجداً كهذا الُمتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !
ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ على خشبات المسارحِ /خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متى ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟
كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
على هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ
كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لولم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ
هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أسطورةً ...
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى
يشدُّ على خصره . ويدقُّ خطاه على الرملِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ .
والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذاما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ،
وماء .
ويكتب سطراً على الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن /من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل
حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْلا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !
ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل
الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !
لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ
ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْمىً عليه
ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً !
ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أخرى
يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً . « أحبك خضراءَ »
ُتتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفقِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /
تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...
من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...
كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحى
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ
كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ
كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّى
وأصبح خاطرةً عابرةْ
كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .
ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وُأصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وُأخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟

طار الحمام وطار
والرسالة أعرف أنها لن تصل!




قلت:
لا شيءَ يبقى على حالِه للولادة وَقْتٌ وللموت وقتٌ وللصمت وَقْتٌ وللنُّطق وقْتٌ وللحرب وقْتٌ وللصُّلحِ وقْتٌ وللوقتِ وقْتٌ ولا شيءَ يبقى على حالِهِ كُلُّ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ والبحرُ ليس بملآنَ، لاشيءَ يبقى على حالِهِ كُلُّ حيّ يسيرُ إلى الموت والموتُ ليس بملآنَ، لا شيءَ يبقى سوى اسمي المُذَهَّبِ بعدي: (( سُلَيمانُ كانَ )) فماذا سيفعل موتى بأسمائهم هل يُضيءُ الذَّهَبْ ظلمتي الشاسعةْ أَم نشيدُ الأناشيد والجامعةْ؟ باطلٌ، باطلُ الأباطيل باطلْ كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ!
ثم مضيت!

(2)
وترجلت الآن عن حصانك أيها العظيم، ترجلت عن صهوة الحياة، وقلت كلمتك الأخيرة عندما لم ينفع الشعر في أن يجعل من الأخ أخا ومن العدو عدوا! ترجلت ورحلت هكذا بكل بساطة دون ضجيج أو افتعال، كما تنبأت بذلك من قبل، وأشرت إلى أن موتك سيكون عاديا جدا، برغم أنه المفاجأة التي لم يتوقعها لا قريب ولا بعيد، ولأنك هزمت الموت أيها العظيم، هزمته بإبداعك وقامتك الشعرية العظيمة قلت في وصيتك: اخلعوا الأنابيب الصناعية! لقد باغته هذا الكبير والمخيف، وتصالحت معه، ولم تعد تخافه كما ذكرت من قبل!
وتركتنا، تركتنا مشفقين على أنفسنا يا آخر عظماء الزمن الرديء، زمننا العربي الرديء، هذا الزمن الذي من رداءته القاسية بات لحما نتئا لا تقربه لا الغربان ولا النسور! وهو لنا وحدنا، لا يتناسب مع أي أمة من الأمم!

(3)
مازلت حيا يا درويش في مكان ما، كأنك مت قبل الآن، وقلتَ: أعرفُ هذه الرؤية وأعرفُ أنني أمضي إلى ما لستُ أعرفُ. رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكان ما، وأعرفُ ما أريدُ...
وأنت حي يا درويش، حي لن تموت، لأن من علم إيقاد شعلة كبريت ليلعن بها ظلمات الزمن الرديء لا يموت!، وستصير يوماً فكرةً. لا سيفَ يحملُها إلى الأرض اليباب، ولا كتابَ...كأنها مطر على جبل تصدَّع من تفتُّحِ عُشبة، لا القُوَّةُ انتصرت ولا العدلُ الشريدُ ! ستصير ما تريد أيها العظيم، وأنت صرت فلا تخف بعد اليوم أن يهاجمك الموت، لأنك هزمته بكل بساطة، وستصير يوماً طائراً، يحلق فوقنا وترى زمنا يشرق، زمنا لا أسود يغتاله، وبلاد بعيدة تقترب، وبلاد ساعتها لها ألف أثر!
وكُلَّما احترقَ الجناحانِ اقتربت من الحقيقةِ. وانبعثتَ من الرماد! لحظتها أيها العظيم ستصير حوارُ الحالمين، أيها الغياب السماوي، ستصير أخيرا شاعرا الماء رهن بصيرته ولغته مجاز للمجاز!

(4)
الفكرة هذه المرة أنك وجدت كل شيء يتساقط ويهوي من علو شاهق ويتفتت في الأرض الحرام! الأخوة أصبحوا غير ذلك، والدم المحرم بات نبيذا لم تشرعه الشرائع، والعدو المرابط يتفرج بصمت وابتسامة سامة تتراقص على الوجه البغيض!
فما جدوى الشعر إذن؟ ما جدوى أن تحترق الأعصاب أكثر بقصيدة أو أخرى، وكل الرفاق الذين نحبهم رحلوا، ذهب الذين نحبهم ذهبوا وتركوك تتفاءل بقصيدة أخيرة، بكلمة ومجاز أخرين! ولكن لا أحد هناك ينصت: من الجحيم إلى المحيط ومن المحيط إلى الجحيم، جاءوك يعدون المقصلة، وأنت يا أحمد العربي كنت اغترابَ البحر بين رصاصتين مُخيَّما ينمو، ويُنجب زعتراً ومقاتلين وساعداً يشتدُّ في النسيان ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين
ستين عاماً كنت تسألْ وترحل! باحثا عن هوية لتصاب بالبركان، ثم بعد ستين عاما يحمل الأخ مقصلة ويشهرها في وجه الأخ! فأنت منذ الآن غيرك وتطلق السؤال مدويا: هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟ وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
يا للسؤال الحارق الذي أشهرته في وجه الأخوة، الذين لم يستطيعوا إلا أن يكسروا التمثال ويقعدوا أسفل منه ليقولوا للعالم كله: نحن استثناء!
وقلت: أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك! أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
وتناسى القوم أنهم المختارون للمحنة، تناسوا عمق الفجيعة وراحوا يدورون حول كرسي فارغ بلا قيمة، وكل عين يا أيها العظيم تتقاطر بالدم، فقلت للماضي لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك، وللمستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف!
وطلبت من حاضرك الذي تركته الآن أن يتحمل سوءة الأخوة عابري السبيل ثقلاءِ الظل الذين فرطوا في الهوية والتي هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة
والسؤال ما زال يراودك في اللحظة الأخيرة : هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: "الله أكبر" أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟ من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟
بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!! لذا أنت يا أنت يا أنت، منذ الآن، غيرك!

(5)
لعلك الآن تتوارى خجلا! لكن لم الخجل أيها العظيم؟ وأنت الذي صنع الحكاية بكلماته التي رددتها العصافير، وحملها حصانك المذهب بالشعر إلى أبعد من ذات القضية، أبعد بكثير من ذات البشر، الشاعر، العاشق، الغريب!
الغريب يعرف جيدا ما هية حكايته، ونحن نعرف أننا لا نعرف ما وصلنا إليه من سقم وذل وطين! نعرف أننا الآن نرحل إلى سواد الزمن العربي الرديء ونعلن أن الصالحين فعلا يرفعهم الله إليه، لكي لا يبقى لنا سوى أصحاب الشركات وبائعي العسل المسموم، والعاهرات، والمتجولين الغرباء الذين لا يرتدون وجهنا، ويدعون أن الباب لهم، والباب يا سيدي ليس بابا من ذهب، ولا حتى من خشب، باب يفتح على الجحيم لأننا لم نفتح بمفتاح الشرف والحب، فتحناه بمطرقة النسيان: نسيان ما كان، وتذكر الآن فقط!
هل تواريت خجلا؟
لا، إنما ذهبت إلى ما تريد، وصرت كما قلت كرمة: فليعتصرني الصيفُ منذ الآن، وليشرب نبيذي العابرون على ثُريّات المكان السكّريِّ! أنا الرسالةُ والرسولُ أنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ سأصير يوماً ما أريدُ، ستصير يوما ما تريد يا درويش، وقد صرت لا خلاف على ذلك، لكنني أبحث اليوم عن معنى أخير لكلمة الاختلاف!

(6)
والعابرون؟
العابرون اليوم يفرحون، ولا يدرون أنك الآن حر طليق، لا يدرون أنك الآن أعظم من كل ما كان، أعظم من كل الحكايات التي تغنيها الجدات لأحفادهن كي لا ينسوا الوطن، فالوطن أنت منذ الآن، والعابرون عاجزون عن أن يقتلعوا جذورك الضاربة فينا، عاجزون عن أن يقولوا اخرجوا واتركوا المكان لنا!
جذرك قوي، مهما فعلوا! وهم عابرون في كلام عابر: كالغبار المر مروا أينما شئتم (هكذا قلت) ولكنلا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة! خلنا في أرضنا ما نعمل ولنا قمح نربيه و نسقيه ندى أجسادنا: ولنا ما ليس يرضيكم هنا حجر.. أو خجل فخذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم على صحن خزف لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل... كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس! أو إلى توقيت موسيقى مسدس فلنا ما ليس يرضيكم هنا ، فانصرفوا ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف وشعبا ينزف وطنا يصلح للنسيان أو للذاكرة آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا آن أن تنصرفوا ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا فلنا في أرضنا ما نعمل ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأول ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ولنا الدنيا هنا والآخرة فاخرجوا من أرضنا من برنا من بحرنا من قمحنا من ملحنا من جرحنا من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة.

(7)
دمعتان إذن تحاولان أن تكفرا عن خطأ تغلغل في الروح الضعيفة، ولكنهما أبتا الخروج وقالتا لي: نحن لا نستحقه! نحن لا نستحقك اليوم ولا غدا، لا نستحق سوى أن نتماهى أكثر فأكثر مع تيهنا الذي تجاوز الأربعين عاما ولم نخرج! لم نجد الأرض المقدسة ولا خيول العودة إلى أبوابنا الأولى! وحصانك الذي جاء يصهل لنا بح صوته وعاد بلا فارس ولا قصيدة، فالقصيدة وقعت على الأرض الخراب، دمرتها أقدامنا العارية المشقوقة لا بأيدي الغرباء المتجولين بل بأيدينا!
نحن الآن نحن
وأنت هناك
تنسج قصيدة أخرى
ويعتصرنا الألم
وأنت
أنت لا أحد سواك
سيحمل شمعة
تفتح باب الظلام
لا أحد سواك
ونحن نحن الآن
يرجمنا الحاضر بغد
نقول: أن تفاحه لنا
لكننا لا نزرع التفاح
نزرع الدم!
نحن الآن نحن
وأنت ما عدت الآن
سوى ما تريد

(8)
فيا موت انتظرني ريثما أنهى تدابير الجنازة في الربيع الهش حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه سأقول صبّوني بحرف النون حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو زهر المحبطين يذّكر الموتى بموت الحب قبل أوانه وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء، إن وجدت وبعض شقائق النعمان، إن وجدت وإلا فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس....
تلك إذن هي وصيتك الأخيرة قبل سنين، وليس للراحلين سوى وصاياهم الأخيرة يبحث عنها الضائعون، لا ليقرؤها، بل ليبكوا على أنفسهم التي ما عرفت كيف تختار لحظة موتها!
مضيت إذن، وحصانك الآن وحيد، حصانك الشعري وحيد في ظلمة أيامنا العربية، وسنتذكر أنك هزمت الموت وفاجأتنا في النهاية بأنك الذي حاصرته وانتصرت! حققت المفاجأة تلو المفاجأة، والأخيرة كانت القمة! كنت إذن في القمة كصقر يشاهد آخر اللحظات ويبتسم دون أن يخاف مرددا:
لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات:
أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةُ،
كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي
وأَنا البعيدُ
أَنا البعيدُ

(9)
وهكذا،
طار الحمام وطار! لم يعد له أن يعود الآن، وما بقي منه سوى ريش ناعم يهطل كما يهطل المطر!

(10)
إذن، وداعا يا درويش!

الاثنين، 11 أغسطس 2008

بداية ما

أرني عينيك كي تراني، أرني قلبك
أرني نفسي من خلالك، من خلال ما ستقوله..