الاثنين، 27 أبريل 2009

من الفأر إلى رصيف جائع: لم أجد بيتي بعد!


عندما نمت على الرصيف أول مرة أدركت أنها لن تكون المرة الأخيرة، وعندما انتظرنا أنا وصديق لي أن يفرغ صديق ثالث من مهمة عاطفية ذات زمن غابر، فظللنا نجوب شوارع مدينة لا نعرف كيف تفكر، وليست معدة على قياسنا نحن المشردين الاثنين! ثم بعدما تعبنا وكاد اليأس يأكل صبرنا كله وجدنا دربنا الذي يوصلنا إلى شقة صديقنا الذي أغلق هاتفه مواصلا مهمته العاطفية، فذهبنا إلى أحد أصدقاء صديق صديقنا نقضي ما تبقى من الليل الغريب!
وكنا مسافرين، في بلاد ليست لنا، وضيفان على أحد أصدقاء صديق صديقنا لا يعرفنا عليه أن يتحمل ظلنا الثقيل ويحترم نفسه قليلا.. لكنه لم يكن كذلك، وفضل أن يكون شبابيا، ويجعلنا نجرب طعم الرصيف بطريقة أقل ابتذالا هذه المرة، كان رصيف السرير: أرضية باردة، وعلينا أن نفرشها بأردية المتسولين ذات الرائحة النفاذة، العطنة!
وأيضا كنت أشعر أنها لن تكون الأخيرة التي قد أنام فيها فوق رصيف بارد!
لكن ذلك لم يكن مهما فالوطن ليس علبة كبريت، ولا رصيفا عابرا، ولكنه الأصدقاء بروحهم العالية، وقلوبهم الدافئة، ومهامهم العاطفية المهمة في اللحظة الحاسمة، وسأحور العبارة التي كان صديق لي دائما يرددها، لأنه من الصعب أن تكتب هنا: الشباب ومن بعدهم الشباب، لكن إن جاءت "مليحة" فليذهب الشباب إلى (.....)!
هكذا كانوا بيتا كبيرا يملأ القلب بالحياة، ولذا لم يكن سيئا أن تلمنا شقة صغيرة، نجعل من مطبخها صالة لإعداد الطعام، ولمتابعة مباريات الريال والبرشة، أو قناة الأفلام، ولم يكن غريبا أن تتقافز الفئران في المساءات الصاخبة باحثة عن بقايا طعام لم يكن ليتوفر في هكذا شقق للعازبين، وعليها أن تعض أصابع قدم أحدهم خلسة علها تجد بقايا لقطعة سكر أو فتافيت خبزة عفنة!
ولم يكن مهما أن لا يجد الواحد منا ملابسه نظيفة في صباح اليوم التالي، أو يجدها قد تناسبت جسد أحدهم، لأنه لم يجد ما يلبس!
وليس مهما أيضا أن تعود من عملك، فتجد سريرك مشغولا، أو تجد الباب مشرعا لأناس لم ترهم مطلقا، وقد تكون تلك المرة الأولى والأخيرة التي يدخلون فيها إلى عشك المتواضع!
ذلك كله لم يكن ذا بال، لأن البيت ليس شقة ضيقة بجدران باهتة الألوان، وأبواب مشرعة للغرباء والضائعين، وأحلام قد تتلقفها عند درجات البناية ضائعة ومتكسرة.. البيت نكتة قالها أحدهم ونحن نتابع قناة من قنوات التلفاز مشفرة أو غير مشفرة، ليلية أو نهارية، رياضية أو درامية، فنضحك فيها على النساء العرايا، والأبطال المتساقطين برصاص أعدائهم، واللاعبين الذين أوقفهم الحكام عن اللعب وفوتوا علينا متعة أن نراهم يسجلون أهداف النصر
وبرغم الشقق المزراب التي كانت لنا خباء للمحرومين، كان بيتنا كبيرا، لأنه كان أحلامهم الجميلة، وطموحاتهم التي كانوا يرصفونها طموحا فوق طموح، كان ذلك التشارك البديع الذي فتتته طموحات الحياة الاعتيادية!
وعندما جاء الوقت ليكون لي بيتا آخر غير الأصدقاء، كان الحب هو البيت العظيم الذي ما إن يدخله كائن حتى يشعر أن العالم كله لا يسعه، وبأن الدنيا بأكملها لم تفصل إلا على مقاسه وحده، وعلى الآخرين أن ينزاحوا إلى الزوايا الضيقة التي صممت لهم، حيث يفرغون أحمال حياتهم البائسة، فهذا المدى كان لي، لي وحدي فقط، لا أرى فيه سواي محلقا في فضاءات القمر، ككائن فقد الجاذبية، وبات نجما يدور حول الضوء الجميل!
وبات البيت شيئا آخر، كبر، وامتد ليصبح كائنا بحد ذاته قد ينام معك على الرصيف ذات يوم، وبالمناسبة: النوم على الأرصفة ليس سيئا إلى ذلك الحد الذي قد يتخيله البعض، فهو يمنحك القوة على تقبل الأرض، إذا ما رفضتك السماء والأقمار! واليوم: ذاك الرصيف ما زال في ذاكرتي تضحكني لحظته الجميلة، وأنتشي بالذكريات التي خلفتها رحلة زيارة صديق بعيد كان يقضي وقته في مهمة عاطفية، فدلفنا إلى مدينة ليست لنا وتهنا حتى آخر الليل وهاتف الصديق مغلقا، ونحن نبحث عن البيت، فهل وجدناه بيتنا الذي غاب في السنوات والذاكرة؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق